أبو حسين الحلاج... الصوفي الثائر الذي أهلكته شطحاته
نبت على أكف ما تركه البسطامي من آثار، فسار على خطاه وكان أبرز تلاميذه عن بعد، لكن السياسة أخذته أحياناً من التصوّف، وتحولت شطحاته الفلسفية إلى تمرّد سياسي اختلف حوله المؤرخون. وعلى رغم الأقلام الكثيرة، التي أعملت فيه مدادها على مدار القرون الفائتة، فإنه لا يزال لغزاً إلى الآن، ولا يزال الناس مختلفين حوله، بين متعاطف يحيله إلى ثائر على الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي، وبين حانق يرى فيه مجدّفاً زنديقا، شوشت عليه الفلسفات الغنوصية الشرقية، وتاهت أقدامه عن طريق الإسلام المستقيم الواضح كشمس ظهيرة صيف.
هو الحسين بن منصور بن محمي، الملقّب بالحلاج، ولد عام 244 هـ، 858 م. وكان جده محمّى مجوسيًا من أهل فارس ثم اعتنق الإسلام. وقد نشأ الحسين بواسط ثم دخل بغداد وتردد إلى مكة واعتكف بالحرم فترة طويلة وأظهر للناس تجلدًا وصبرًا شديداً على مكاره النفس، مستفيداً من الفلسفات الهندية التي تدعو إلى مقاومة الجوع والتعرّض للحر والبرد.
عاصر الحلاج تسعة من الخلفاء، قُتل خمسة منهم ومات ثلاثة آخرون ميتة مشبوهة! وكان شاهداً على تحلًل الخلافة، بفعل الظلم المتفشّي والاستبداد المستشري، الذي قاد إلى احتجاجات وتمردات وثورات على رأسها ثورتا الزنج والقرامطة وفورة ابن المعتز، وأدى في الوقت ذاته إلى تفكك أوصال الخلافة، حتى لم يبق منها تحت أقدام بني العباس سوى العراق. وزاد الطين بلة استعانة المعتصم بالأتراك، الذين زادت سطوتهم، وعلت منزلتهم على العرب، وأذاقوا الرعية ظلماً وتنكيلاً.
جدل لم ينتهِ
الحلاج من أكثر المتصوّفة إثارة للجدل، فكثيرون من علماء السنة اتفقوا على تكفيره ووصفوه بـ{الزنديق}، ومن بينهم من اكتفى بتفسيقه، ورميه بممارسة السحر والشعوذة، وفضح بعض شطحاته، المرتبطة بفكرة {الحلول والاتحاد}. واتهمه مؤرخو السنة بأنه {منافق، متلون كالحرباء مع كل طائفة حتى يستميل قلوبهم}. فقد كان الحلاج متقلباً في أعين العوام، فكانوا يرونه تارة مرتدياً زي الفقراء والزهاد، وتارة بزي الأغنياء والوزراء، وتارة في لباس الأجناد والعمال.
وهو مع كل قوم على مذهبهم، إن كانوا أهل سنة أو رافضة أو معتزلة أو صوفية أو حتى فساق. ورأى قاضي بغداد آنذاك محمد بن داود قاضي أن آراء الحلاج تتعارض مع تعاليم الإسلام، لذا رفع أمره إلى القضاء طالباً محاكمته أمام الناس والفقهاء. فهو حين سئل عن رأيه في الحلاج قال: {إن كان ما أنزل الله تعالى على نبيه عليه السلام حقاً وما جاء به حقاً، فما يقول الحلاج باطل}. وكان شديداً عليه، ثم حكم بكفره لتأويله آيات القرآن، في مسألة الحب الإلهي خصوصاً، وبمخالفته السنة النبوية.
وقد فتح ابن مجاهد كبير قراء القرآن في عصره قضية الحلاج مجدداً، بعد أن وقع في يده تفسير بخط يد الحلاج، وقد تضمن من ذكر أرباب عدة وآلهة كثيرة. فسلّم ابن مجاهد هذا التفسير للوزير علي بن عيسى، ولم يتسامح مع تفسير الحلاج على رغم غضّه الطرف عن كثير من شطحات المتصوفة.
أما القاضي أبو عمر المالكي فقد كان مفتي الفتوى الخاصة بحكم الإعدام ومزكي الشهود الموقعين، فقد تشبث الوزير حامد بن العباس بزلة لسان القاضي، {يا حلال الدم} على رغم تشاغله عنه. واعتبر الشبلي أن استشهاد الحلاج وردة من الجمال المحرم وليس زاد خلود يبلغه من يشاء، وربما جسدت مواقف كل من ابن عطاء وابن سريج وابن عقيل في ما بعد، والذي ألف رسالة في نصرة الحلاج.
لكن ثمة من جاروا الحلاج، وسعوا إلى تأويل أقاويله، بما لا يجعله منحرفاً إلى حد كامل عن الشرع. وسعى هؤلاء إلى تبرئته، من خلال الإدعاء بأن ما قيل على لسانه لا أساس له من الصحة وأنه كلام مدسوس عليه. أما أتباعه من المتصوفين وهم قلة فإنهم يقدسون أقواله ويؤكدون نسبتها إليه ولكنهم يقولون إن لها معاني باطنة غير المعاني الظاهرية، لا يفهمها أحد سواهم. بينما جنح المستشرقون إلى تفسيرات أخرى وجعلوا منه بطلاً ثورياً شبيهاً بأساطير الغربيين.
وكان ابن عطاء الحنبلي في مقدمة الفقهاء الذين دافعوا عن الحلاج، إذ قيل إنه عُرض عليه بعض أقوال الحلاج فقال: {إنها اعتقاد صحيح، وأنا أعتقده، ومن لا يعتقد مثل هذا فهو بلا اعتقاد}، وقد كلفه رأيه هذا حياته، حين ضرب وحمل إلى منزله وهو يحتضر فمات بعد ذلك بسبعة أيام فقط، وقبل أيام من مقتل الحلاج. أما أبو العباس بن سريج الشافعي فقال حين سئل عن الحلاج: {أراه حافظاً للقرآن عالماً به ماهراً في الفقه عالماً بالحديث والأخبار والسنن صائماً الدهر قائماً الليل يعظ ويبكي ويتكلم بكلام لا أفهمه فلا أحكم بكفره}. ويقال أيضاً إنه سئل عن فتوى قتل الحلاج فقال: {لعلهم نسوا قول الله تعالى: {أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله}}. ثم قضى في النهاية بجملة أثيرة تقول عن الحلاج: {هذا رجل خفي عني حاله، وما أقول فيه شيئاً}.
ويرى ابن النديم أن الحلاج دعا في بداية أمره إلى الرضا من آل محمد ضد بني العباس، وبذلك يعد من دعاة الإسماعيلية، على خطى أبيه الذي كان أول من دعا إلى اعتناق هذا المذهب في الري وأذربيجان وطبرستان. أما ابن كثير فينعته بالرافضي، ويستند في ذلك إلى اعتماد كثير من الرافضة على آرائه ومواقفه. ويذهب المؤرخ الشهير ابن خلكان إلى ما هو أبعد من ذلك حين يجزم بأن الحلاج كان متصلاً بالقرامطة والعلويين المناهضين للدولة العباسية. وثمة من رأى أنه كان من شيعة آل البيت، وأنه قتل لهذا السبب. ويؤيد هذا الرأي كل من أحمد أمين وزكي مبارك، ويستند أصحابه على ورقة كتبها الحلاج ذات يوم، ووضع فيها اسم علي في الصدارة وبخط بارز. وثمة من يرفض هذه الأقاويل كلها ولا يرى في الحلاج إلا داعية لنفسه، ورجلاً شاطحاً تصور أنه المهدي المنتظر، بل وصل به الأمر إلى إدعاء الربوبية ومراسلة أتباعه من لدى سدرة المنتهى. ويستدل على ذلك بقول الحلاج: {أنا رأس مذهب، وخلفي ألوف من الناس}، ثم شطحه بالقول: {إني مغرق قوم نوح، ومهلك عاد وثمود}.
وتتعد الروايات في الحلاج حسب موقف أصحابها منه. فثمة من يركز على حلوله، الذي يغني عن الصلاة والزكاة والصوم والحج . وهنا ينسب إلى الحلاج قوله: {إن من صام ثلاثة أيام لا يفطر إلا في اليوم الرابع على ورقات هندباء أجزأه ذلك عن صيام رمضان ... ومن صلى في ليلة ركعتين من أول الليل إلى آخره، أجزأه ذلك عن الصلاة بعد ذلك وإن من جاور بمقابر الشهداء، وبمقابر قريش عشرة أيام يصلي ويدعو ويصوم ثم لا يفطر على شيء من خبز الشعير والملح الجريش أغناه ذلك عن العبادة بقية عمره}. ويذهب خصومه إلى أن الحلاج ابتني كعبة مصغرة في بيته، وطالب الناس بالحج إليها.
أما المدافعون عنه فقد سعوا إلى خلق الأعذار له، ودحض الرويات التي تقدح فيه، وتأويل ما يمكن أن ينصرف على الكفر أو الفسوق.
وثمة من يحاول أن يضع كل ما سبق في ميزان حكم دقيق، فيؤكد أن الرافضة هم الذين سعوا الى قتله، ولو كان منهم ما أقدموا على هذا، وأن الحلاج لم يكن سوى ثائر سياسي وقطب صوفي، دعا الأمراء إلى الإصلاح فناصبوه العداء، وأطلقوا الشائعات حوله. وفي الأحوال كلها يبقى الحلاج أحد الألغاز الظاهرة في التاريخ الإسلامي برمته. ولهذا كان التصوف لدى الحلاج جهاد في سبيل إحقاق الحق، وليس مسلكاً فردياً بين العبد وربه فحسب. وهنا ينظر البعض إلى الحلاج بوصفه رمزاً كبيراً ساهم في تطوير النظرة العامة إلى التصوًف، فجعله يفارق الجوانية ليصبح جهاداً ضد الظلم والطغيان الذي كان سائداً في المجتمع العباسي.
بداية المأساة
بدأت مشكلة الحلاج بعد عودته من حجه الثاني إلى بغداد قرابة 291هـ، إذ لاحظ ابنه أحمد أن أباه تغير، كما لو أنه انقطع لرسم خطته ومنهجه اللذين سينشر بهما مذهبه، وبدأ في نظم كلام غريب من قبيل:
هيكلي الجسم نوري الصميم صمدي الروح ديـان عليـم
عاد بالروح إلى أربابهــا فبقى الهيكل في الترب رميم
لم ترقَ هذه الأقوال لا للمتصوفة ولا للفقهاء، وألبت عليه الحكام الذين لفت انتباههم أن الحلاج طامح إلى الزعامة السياسية، لا سيما بعد أن أقام الحلاج جسوراً متينة مع عدد من الأمراء والأعيان في معظم البلدان التي زارها، ففي حجه الأول التقى بأمراء من الخراسانيين والأتراك، ونجح في أن يؤثر في أمراء من قوهستان وما حولها. كذلك التقى الأمير أخ صعلوك والي الري، وأقنعه بما يقول. وراح يؤلف الكتب لعدد من الأعيان.
وخلال هذه الفترة قطع الحلاج صلته مع أقرب الناس إليه وهو أستاذه الجنيد. فقد سأل الحلاج الجنيد: ما الذي باين الخليقة عن رسوم الطبيعة؟!، فإذا بالجنيد ينهره في حدة: في كلامك فضول. أية خشبة تفسدها؟! فاسودت الدنيا في عيني الحلاج، واختلى بنفسه بين القبور، ليترسخ في داخله يقين بأن: {منزلة الرجال تعطى ولا تتعاطى}. ودخل الحلاج في جدل عنيف مع ذاته انتهى بخلعه خرقة الصوفية، وابتعاده عنهم، الذي ترجمه ذات يوم باعتراضه على الجنيد. فما إن وقف على المنبر يخطب في الناس، حتى قال له الحلاج: يا أبا القاسم، إن الله لا يرضى عن العالم بالعلم حتى يجده في العمل، فإن كنت في العلم فالزم مكانك وإلا فانزل. فنزل الجنيد ولم يتكلم على الناس شهراً.
وإثر إصراره على مواصلة طريقه، ذاع صيته، حتى رأى فيه بعض الوجهاء قائداً ملهماً، لا سيما في بلاد ما وراء النهرين، التي كان دائم السفر إليها. وطاف أيضا في الكثير من البلدان ودخل المدن الكبيرة وانتقل من مكان لآخر داعيا إلى الله على طريقته في الحلول والاتحاد، فكان له أتباع في الهند وفي خراسان، وفي سركسان وفي بغداد وفي البصرة.
وكان أهل الهند يخاطبونه بـ{الغوث} وكاتبه أهل سركسان بـ {المقيت}، وكاتبه أهل خراسان بـ {المميز}، وأهل فارس بأبي عبد الله {الزاهد}، وبعض أهل بغداد وصفوه بـ {المصطلم}.
وهذه الأوصاف والنعوت جعلت للحلاج هيبة حتى في قلوب أهل السلطة، فها هو يصرخ ذات يوم في الوزير علي ابن عيسى: {قف حيث انتهيت ولا تزد عليه شيئاً، وإلا قلبت عليك الأرض}، فما كان من الوزير إلا أن تهيب مناظرته واستعفى منه.
راح الحلاج يختلط بالعوام، وكانت مواعظه في الأهواز بالغة الأثر في حياة الناس، والتي امتدت ما بين: 272– 273 و 279–281 هـ.اتصل الحلاج بالدنيويين مثلما اتصل بالكتبة وعمال المال وكبار الموظفين. وأبدى بعض هؤلاء تعاطفاً معه إلى أبعد مدى. فعقب أقواله الثورية التي كان يطرحها على الناس في المساجد أو في الأسواق كانوا يبكون لحاله.
وخلال هذه الفترة تناقل الناس ما كان يصدر عن الحلاج من كلام غريب على أسماع العوام، مثل ذلك الذي يرويه عنه الشيخ إبراهيم بن عمران النيلي، حيث قال: { سمعت الحلاج يقول: النقطة أصل كل خط، والخط كله نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها، وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلّي الحق من كل ما يشاهد وترائيه عن كل ما يعاين. ومن هذا ُقلت: ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله فيه}.
وكان يناجي ربه ويقول: {وأنا بما وجدت من روائح نسيم حبك، وعواطر قربك استحقر الراسيات واستخف بالأرضين والسماوات}.
وكان يقول أيضاً: {يا إله الآلهة، ويا رب الأرباب... رد إلي نفسي لئلا يفتتن بي عبادك}. ولم يكتف الحلاج بمناجاته وإنما أخذ يصيح في الأسواق: {يا أهل الإسلام أغيثوني، فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه}. وقد أصرّ الحلاج حتى آخر حياته على أن أستاذيه إبليس وفرعون، ثم ادعى النبوة. فقبض عليه فأنكر ما نسب إليه، وناظره الفقهاء في لقاء فلسفي مشهود، انتهوا إلى أنه رجل شاطح، فأُمر بسجنه، وبقي في السجن مقيداً أول الأمر، لكن خفِّف عليه العقاب، فبنوا له بيتاً صغيراً في السجن، ما أتاح له مواصلة التأليف، ورؤية أصدقائه. ويقال إنه نجح في تطبيب الخليفة من علة أصابته، وعليها نُقل إلى دار السلطان ليقيم فيها.
إصرار حتى النهاية
لكن الحلاج لم يرتدع، بل قيل إنه ادعى الربوبية، وأضلّ خلقًا كثيرًا من غلمان بيت الخليفة والوزراء ومن الخدم والحشم، بل أضل نصر القشوري حاجب الخليفة نفسه، وظهرت طائفة بالعراق تقول عن الحلاج إنه إله وإنه يحيي الموتى، وإن الجن مسخرون له، ومؤتمرون بأمره. وترددت في هذه الآونة شائعات تقول إن ثلاثة أفراد من متآمري القرامطة أقسموا على تدمير الإسلام وهم {أبو سعيد الجنابي[ت301] وله الإحساء والحلاج وله بغداد وابن المقفع وله بلاد الترك}. وما زاد الطين بلّة أن سطوة الحلاج راجت في وقت قامت للشيعة دولة كبرى، وهي الدولة الفاطمية، وقد قيل إن الحلاج أرسل رسالة إلى أحد مريديه يعبر فيها عن ابتهاجه بظهور ما أسماها {الدولة الغراء الفاطمية الزهراء المحفوفة بأهل الأرض والسماء... ليكشف الحق قناعه ويبسط العدل باعه}.
ولهذا قُبض على عدد من أتباعه، فاعترفوا عليه بأنه يدعي الربوبية والألوهية، فلما واجهوه بالشهود أنكر بشدة وتبرأ منه وجعل لا يزيد على الشهادتين والتوحيد، {فكبسوا داره فوجدوا فيها رسائل وكتبًا مكتوبة بماء الذهب على ورق الحرير فيها ضلالاته وكفرياته، ثم أقرت عليه زوجة ابنه سليمان بأنه قد أمرها بالسجود إليه وقال لها لما اعترضت: نعم إله في السماء وإله في الأرض}. وعقد له مجلس مع الفقهاء والعلماء فأفتوا بكفره وضلاله ووجوب قتله، فأصدر الخليفة المقتدر بالله أمرًا بضربه ألف سوط ثم قطع يديه ورجليه ثم صلبه على جسر بغداد.
ولما عقدت المحكمة استبعد القضاة الشافعية والحنابلة لأنهم كانوا خصوم الدولة ومشككين في شرعية المحكمة، كان رئيس المحكمة مالكي، والمالكية لا تقبل توبة الزنديق. وظل الحلاج متماسكاً طوال المحاكمة التي كانت في مصلحته أول الأمر، إلى أن نوقش في مسألة الحج، التي أفتى فيها بجواز أن يطوف المرء، حال عدم استطاعته الحج إلى الكعبة، ببيته سبع مرات، فإذا فعل ذلك سقط عنه الحج!. وتساءل القاضي عن أسانيد الحلاج في هذا القول، فرد عليه بأنه وجد حكمها في كتاب {الإخلاص} للحسن البصري.
ورد عليه القاضي بأنه قرأ هذا الكتاب ولم يجد فيه مثل هذا الرأي. واحتج الحلاج وراح يصرخ: {ظهري حمى وجسمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علي بما يبيحه اعتقادي الإسلام ومذهبي السنة ولي كتب في الوراقين، فاللهَ اللهَ في دمي}. وحاول الحلاج تحدي قضاته بالدعوى إلى تحكيم الله في المخطئ والمذنب من الطرفين ، لكن السيف كان سبق العزل.
وكان التصديق على حكم إعدامه يتضمن الشكل الذي نفذ به، حيث استعمل فيه السوط الذي يكون في الحدود كلها وفي التعزير، والسيف الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق، والصلب الذي يكون في العادة لقطاع الطرق والمحاربين، والنار التي نهى عنها لأنها مثلة ثم نصب الرأس والأعضاء الذي لا يكون إلا للخارج، مع تنفيذ ذلك كله علناً وأمام الناس.
ويقول المستشرق الألماني الشهير كارل بروكلمان إن محاكمة الحلاج استمرت سبعة أشهر، ظل خلالها الحلاج يناظر فيها من دون أن يظفرون منه بشيء، وأغرب ما في الأمر أن التهم التي وجِّهت الى الحلاج من ممارسة السحر مروراً بدعوى عبادة تلامذته له، انتهاءً بكلماته المستغربة، لم تجعل القضاة يحكمون بموته، وإنما تمسكوا بقضية تعد فرعية إلى جانب الاتهامات السابقة وأطلقوا حكمهم عليها، وتتمثل في صرخة الحلاج في الوزير حامد المتحمس لمحاكمته وقتله: {يا حلال الدم}.
وهنا يقول الدكتور محمد حلمي عبد الوهاب في كتابه {ولاة وأولياء} إن الحلاج قُتل لأسباب سياسية ذات لبوس دينية لتوفير غطاء الشرعية على الحكم، ولن يكون الحلاج آخر شهيد للتصوف في الإسلام، فعلى غراره استشهد النسيمي الذي وضع له حسادة آية الصمد في نعل حذائه، ولم يدافع عن نفسه، {وصار ينشئ موشحات في التوحيد وهم يسلخونه حتى عمل خمسمائة بيت، وكان ينظر إلى الذي يسلخه وهو يبتسم} . ثم يضيف {لم يكن استشهاد الحلاج موتاً اعتيادياً، بل كان أشبه بعملية تصفية دموية، نالت منه عضواً عضواً، فالجسد منصوب فوق الجذع، مبعثر تعمه فوضى انفجار المعذب المكلوم إلى أشلاء تصاعد في الهواء ثم تطرح أرضاً، هدفاً لكل التهكمات، مبتور الرأس، مقطع الأطراف، محترقاً، وفيما يساق إلى النهاية، يرقص في قيده فرحاً ومبتهجاً، ينشد قائلاً: {نديمي غير منسوب إلى شيء من الحيف}، فلما قطعت يداه راح ينشد: {إلهي إنك تتودد إلى من يؤذيك، فكيف بمن يؤذي فيك}.
وبعد قتل الحلاج مُنع الوراقون من استنساخ كتبه، ومنع الناس من ذكره أو الترحم عليه، ولذا فإننا إن تابعنا المؤلفات الصوفية من بعده، نجد القشيري لم يترجم للحلاج في رسالته، وعلى الرغم من استشهاده بأقواله في أكثر من خمسين موضعاً، إلا أنه كان يكتفي في الغالب بقوله: وقال بعضهم، وفي حالات تعد على الأصابع ذكر الحلاج باسمه دون لقبه، أما الطوسي ففي كل مرة يتعرض فيها للحلاج يشفع اسمه بالترحم عليه. ومع هذا بقيت للحلاج شاهدة عليه وعلى أفكاره، ومنها {الساسة والخلفاء والأمراء} و{السياسة والخلفاء} و{الدرة} و{كيد الشيطان وأمر السلطان} و{الطواسين}.