أنا يا أبي مذ أن فقدتك لم أزل ..أحيا على مرّ الزمان بمأتمِ
تجتاحني تلك الرياح تطيح بي .. في مهمةٍ قفرٍ ودربٍ أقتَمِ
وتمرُّ بي كل العواصف والردى .. يدنو مع الأمواج واسمك في فمي
أنا لم أزل أشكو إليك ولم تزل ..ذكراك قنديل الطريق المعتمِ
وكأنك الصدق الوحيد بعالمي .. والكل يا أبتاه محض توهُّمِ
وكأنني ما زلتُ أحيا يا أبي .. في حضنك الحاني ألوذ وأرتمي
وكأن كفك لا تزال تمدها .. نحوي وتمسك في حنانٍ معصمي
لا لم تمت عندي ولكن ما ارتوى .. ظمأي إليك وما شفاني بلسمي
لا لم تمت عندي ولكنّ الأسى .. والحزن يا أبتاه أبلى أعظمي
وأنا متى جاء يأتي المساء أكاد من..شوقي إليك أضم بعض الأنجمِ
أظل ألثم كل شيء لامست .. كفّاك في بيتٍ كئيبٍ مظلمِ
وتظلُّ من فيض الشقاء وسادتي .. حمراء تسبح في بحورٍ من دمِ
من ذا يخفف ما ألمَّ بخافقي .. من ذا يحدُّ من الشعور المؤلمِ
من كان علمني العزاء فقدته .. من ذا يعزّيني بفقدِ معلمي
( محمد حسن علوان )
الحب الإلهي
عند رابعة العدوية
مدخل:
رابعة العدوية عاشقة الله، أنموذج الحق والقوة، ومقاومة الخوف من البشر، فها نحاول تسليط الأضواء على امرأة عرفت سرّ الحياة والوجود كانت عابدة لله كما أراد الله.
رابعة العدويةأم الخير، رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، مولاة آل عيتك، الصالحة المشهورة، كانت من أعيان عصرها، وأخبارها في الصلاح والعبادة مشهورة ولدت بالبصرة سنة 95ه أوائل القرن الثاني الهجري، وعاشت رابعة في القرن الثاني الهجري، وهو العصر الذي ظهر فيه أعلام كثيرون في التصوف منهم الحسن البصري (ت 110ه) وسعيد بن المسيب (ت 159ه) ويحيى بن حي (ت 131ه) والأوزاعي (ت157 ه)، وسفيان الثوري (ت161ه) والليث بن سعد (ت175ه) والشافعي (ت 204ه) والإمام مالك (ت179ه) وسفيان الثوري (ت 198ه) وعبد الله بن المبارك (ت181ه) وابن السماك (ت183) والفضيل بن عياض (187ه) وإبراهيم بن الأدهم (ت 162ه) ومعروف الكرخي (ت200ه) وغيرهم. توفيت سنة 185ه ودفنت ببيت المقدس وقبرها يزار. (انظر ابن خلكان. 2/285-288، ابن الجوزي، 4/27-28).
وترى رابعة العدوية أن الدخول على المحبة الإلهية لا بد من اتباع ما يلي:
الورع
لقد عرفت رابعة العدوية أن الورع هو المدخل الأسنى في الدخول على حضرة علام الغيوب وفي ذلك يقول سهل بن يحيى: "لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه هذه الأربع: أداء الفرائض بالسنن، وأكل الحلال بالورع، واجتناب النهي عن الظاهر والباطن، والعبد على ذلك حتى الممات" (القشيري: 1/299). وقد أورد ابن خلكان حكاية عن ورعها وتقواها فقال: قالت رابعة العدوية لأبيها: يا أبت، لست أجعلك في حل من حرام تطعمينه فقال لها: أرأيت إن لم أجد إلا حراماً؟ قالت: نصبر في الدنيا على الجوع خير من أن نصبر في الآخرة عن النار" (ابن خلكان 2/285). فالورع أن تطيب مطعمك فلا تأكل إلا الحلال، وهكذا كان وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين إذ قال: "مثل المؤمن كالنحلة، إذا أكلت لا تأكل إلا طيباً وإذا أخرجت لا تخرج إلا طيباً، إذا وقفت على عود نخر لم تكسره." وقد روي عن الحسن بن يسار قوله: صلاح الدين الورع وفساد الدين الطمع (القشيري1/34).
الصدق
من السمات المهمة في شخصية رابعة العدوية صدقها مع الله, ومع الناس. فالصدق منجاة من كل الآثام, وهي مطلب الأنبياء والصالحين. وفي ذلك ورد في القرآن الكريم قول الله تعالى: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء، آية 84) وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يزال الرجل يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وهكذا فإنها قبلت الصدق مع الله ودونه إن هذا الأمر جعل الآخرين يخافونها ويهابونها. فقد كانت تنصح دون خوف ولا وجل من أحد. دخل على رابعة رباح القيسي وصالح ابن عبد الجليل وكلاب ، فتذاكروا الدنيا فأقبلوا يذمونها فقالت رابعة: إنيّ لأرى الدنيا بترابيعها في قلوبكم، قالوا: ومن أين توهّمت علينا؟ قالت: إنكم نظرتم إلى أقرب الأشياء من قلوبكم، فتكلمتم فيه. (ابن الجوزي4/28). وهكذا كان الصدق في نظر رابعة العدوية كما يقول الغزالي، للصدق معانٍ ستة: صدق في القول، وصدق في النية وصدق في العزم، وصدق في الوفاء، وصدق في العمل وصدق في تحقيق مقامات الدين (عبد القادر عيسى، 302ص).
زهدها
إن من أهم صفات أهل الله الصالحين، والصوفية المخلصين العزوف عن الدنيا وزخارفها، والإقبال بالقلب على الله. وهذا ما عنته رابعة العدوية في ردها على من طلب زواجها. أورد ابن خلكان حكاية عن رابعة العدوية قال فيها: "كان أبو سلمان الهاشمي له بالبصرة كل يوم ثمانين ألف درهم فبعث علماء البصرة في امرأة يتزوجها، فأجمعوا على رابعة العدوية، فكتب، إليها: أما بعد فإن ملكي من غلة الدنيا في كل يوم ثمانون ألف درهم، وليس يمضي إلا قليل حتى أتمها مائة ألف إن شاء الله، وأنا أخطبك نفسك، فأجيبيني، فكتبت إليه: أما بعد فإنّ الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، والرغبة فيها تورث الهمّ والحزن، فإذا أتاك كتابي فهي زادك وقدم لمعادك، وكن وصي نفسك، ولا تجعل وصيتك إلى غيرك وهم دهرك، واجعل الموت فطرك، فما يسرني أن الله خوّلني أضعاف ما خوّلك، فيشغلني بك عنه طرفة عين" والسلام. (ابن خلكان، 2/286).
من هذه الحكاية تفهم رابعة أن المال والجاه والسلطان لا يغيرُها كل ذلك، بل كانت ترى أن الله تعالى قد أعطاها من المحبة والراحة الأبدية أضعاف عطايا مال أبي سليمان الهاشمي. وهي بهذا رفضت أن يشغلها عن الله هذا التاجر الثري وماله.
ولقي سفيان الثوري رابعة – وكانت مزرية الحال فقال لها يا أم عمرو أرى حالاً رثة، فلو أتيت جارك فلاناً لغير بعض ما أرى فقالت له: يا سفيان وما ترى من سوء حالي، الست على الإسلام فهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر فيه، والأنس الذي لا وحشة معه، والله إني لاستحي أن أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسال من لا يملكها، فقام سفيان وهو يقول: ما سمعت مثل هذا الكلام... (ابن خلكان، 2/286).
الخوف من الله ...
كانت رابعة تعيش دهرها بين عبادة وذكر، خوف ورجاء وهكذا كان الصوفية وكذا رابعة للخوف: فالخوف هو تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في المستقبل، ولكن أعظم مقام الخوف، الخوف من الله تعالى، لأن من عرف الله خافه بالضرورة، وفي ذلك يقول الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (سورة فاطر، آية 28). وأمر المؤمنين بالخوف والخشية منه فقال تعالى: {وإياي فارهبون} (سورة البقرة، آية 40). وقد أورد ابن الجوزي حكاية عن رابعة العدوية وخوفها من الله فقال: قال عبد الله بن عيسى: دخلتُ على رابعة العدوية ببيتها فرأيت على وجها النور، وكانت كثيرة البكاء، فقرأ رجلٌ عندها آية من القرآن فيها ذكر النار، فصاحت ثم سقطت، ودخلت عليها وهي جالسة على قطعة بوري خلق فتكلم رجل عندها بشيء فجعلت أسمع وقع دموعها على البوري مثل الوَكْف ثم اضطربت وصاحت، فقمنا وخرجنا (ابن الجوزي، 4/27). وكانت كثيرة البكاء والحزن، وكانت إذا سمعت ذكر النار غشي عليها زماناُ، وكان موضع سجودها كهيئة الحوض الصغير من دموعها، وكأن النار ما خلقت إلا لأجلها. وحكايات خوفها من الله كثيرة فقد ذكر سجف من منظور: دخلت على رابعة ساجدة، فلما أحست بمكاني رفعت رأسها، فإذا موضع سجودها كهيئة المستنقع من دموعها، فسلمت فأقبلت علي فقالت، يا بني ألك حاجة، فقلت: جئت لأسلم عليك، قال فبكت، وقالت: سترك اللهم سترك، ودعت بدعوات، ثم قامت إلى الصلاة وانصرفت. (ابن الجوزي4/291).
الحب الإلهي
والمحبة الإلهية هي أعلى مقامات الصوفية والصالحين والعارفين، وهكذا كانت تقرر رابعة العدوية فهي ترى أن الحب الإلهي هو إيثار من الله تعالى لعباده المخلصين ومنتهى نهاية الفضل العظيم.
وذكر أبو القاسم القشيري في الرسالة عن رابعة أنها كانت تقول في مناجاتها: "إلهي تحرق بالنار قلبا يحبك، فهتف بها مرّة هاتف: ما كنا نفعل هذا فلا تظني بنا ظنّ السوء". (ابن خلكان، 2/285).
وروى ابن خلكان عن رابعة العدوية قال: وكانت إذا جن عليها الليل قامت إلى سطح لها ثم نادت:
"إلهي هدأت الأصوات، وسكنت الحركات، وخلا كل حبيب بحبيبه، وقد خلوت بك أيها المحبوب،
فاجعل خلوتي منك في هذه الليلة عتقي من النار." (ابن خلكان: 2/286).
ومذهب رابعة العدوية في الحب يسير على الحب الخالص لله دون حاجة من المحبوب. وفي ذلك ترى أن المحبة هي التي تعمى وتعم، تعمى عما سوى المحبوب، فلا يشهد سواه مطلوباً. وفي ذلك تراه تنشد في محبة الخالق:
أحبك حُبين حب الهوى *** وحبا لأنّك أهل لذاكا
فأما الذي هو حُب الهوى *** فشغلي بذكرك عَمّن سواكا
وأما الذي أنت أهلٌ له *** فلست أرى الكون حتى أراكا
فما الحمدُ في ذا ولا ذاك لي *** ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
ورابعة العدوية كانت من الدعاة إلى حب الله لذاته لا رغبة في الجنة، ولا خوفاً من النار، ومن شعرها:
إني جعلتك في الفؤاد محدّثي *** وأبحث جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانسٌ *** وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وقالت ايضا
كلهم يعبدون من خوف نار *** ويرون النجاة حظاً جزيلاً
أو أن يسكنوا الجنان فيحظوا *** بقصورٍ ويشربوا سلسبيلا
ليس لي في الجنان والنار حظ *** أنا لا أبتغي بحبي بديلا
وبعد فهذه رابعة العدوية، وهذا هو الأدب الصوفي، أدب الحب الإلهي أدب حافل بالروح والفكر المتجدد، وأدب عميق يحكي التجربة الحية. فالتصوف جزء هام من تراثنا، وتغلبنا على مواطن الضعف والانكسار، ونقلها إلى روح القوة والانتصار.
اللهم ارحم من سكنوا القبور، وفارقوا الأهل والدور، فإنك أنت العزيز الغفور.
اللهم ارحم من لم يزرهم زائر ولم يذكرهم ذاكر، فمالهم من قوة ولا ناصر.
اللهم حل أرواحهم محل الأبرار وتغمّدهم بالرحمة أثناء الليل والنهار.
اللهم إن كانوا في ظلمة فأنير عليهم وإن كانوا في ضيق فوسع عليهم وإن كانوا في عذاب فانزل الغفران عليهم.
اللـهـمَّ احشرهم مع المؤمنين واجعل تحيتهم سلام لك من أصحاب اليمين.
اللـهـم ارزقهم بكل حرف تلوه في القرآن حلاوة، وبكل كلمة كرامة، وبكل آية سعادة، وبكل سورة سلامة، وبكل جزء جزاءً.
اللهم اغفر لهم عدد خلقك، واغفر لهم رضا نفسك، واغفر لهم زنة عرشك، واغفر لهم مداد كلماتك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اسقِ قبر كل ميت، وعطر مشهده، وطيب مضجعه وآنس وحشته، ونفس كربته ، وقه عذاب القبر وفتنته.
اللھم في كل دقيقه تمُر عَليهم وهم في قبورهم... أسألك أن تفتح لهم بـاباً تهُب منه نسائم الجنة لا يسَد أبدا.
اللـهـم اسكنهم فسيح الجنان واغفر لهم يارحمن و يا رحيم ارحم وتجاوز عما تعلم.
اللـهـم ارحمهم تحت الأرض، واسترهم يوم العرض، ولا تخزهم يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون.
روح الــروح (1)
يقول فريد الدين العطار فى مناجاته لربه : يا من لا وجود لسواك فى طلعتك ، أنت العالم ولا وجود لأحد غيرك ، الروح خفية فى الجسد ، أما أنت ففى الروح اختفيت ، يا خفيا فيما هو خفى ، ويا روح الروح ، ويا من أعظم من الجميع ، ومقدم على الكل ، إنها جميعاً تُرى من خلالك ، كما تُرى أنت من خلال الجميع .
محرابك غاص بالحرس والجند ، فكيف يتمكن الإنسان أن يسلك الطريق صوبك ، ليس للعقل والروح طريق للطواف حولك ، كما لن يستطيع شخص قط أن يدرك كنه صفاتك ، وإن كان هناك كنز خفى فى الروح فهو أنت ، وما وضح فى صورة الجسم والروح هو أنت أيضا ، وما أصابت جميع الأرواح شيئا من ذاتك ، وقد نشر الأنبياء أرواحهم على تراب طريقك ، وإذا قدر للعقل أن يدرك أثراً من آثار وجودك فلن يستطيع مواصلة الطريق لإدراك كنهك . أنت الخالد الأوحد فى الوجود ، والفناء نصيب الجميع على الدوام .
وتمضى مناجاة العطار … أحيانا يخاطب الله سبحانه ، وأحيانا يخاطب نفسه ، وأحيانا يخاطب الإنسان بوصفه ابن الخليفة .
يقول العطار : يا ابن الخليفة ( يعنى بالخليفة أدم حيث قال تعالى : وَإِذْ قَالَ رَبُّـكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [ 30 : البقرة ] ) .
ويرى العطار أن أمر العالم خليط من الحيرة والحسرة ، وما أكثر الغرقى فى بحر الحقيقة
• ومن هنا يخاطب الهر قائـلاً : { يا خالقى لقد وقعت فى الحيرة والاضطراب ، أما أنت فظللت فى سترك خلف النقاب ، فلترفع النقاب ولا تحرق روحى ، ولا تعذبنى أكثر مما أنا فيه ، لقد غرقت فجأة فى أمواج بحرك ، فلتنقذنى من كل هذا الاضطراب وتلك الحيرة ، يا إلهى لقد تخضب قلبى بالدم فلا تتخل عنى لحظة } .