أويس القرني وعمر بن الخطاب
حج بالناس عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- سنة ثلاث وعشرين، قبيل استشهاده بأيام، وكان شغله الشاغل في حجه البحث عن رجل من رعيته من التابعين يريد مقابلته.
وصعد عمر جبل أبا قبيس وأطل على الحجيج، ونادى بأعلى صوته: يا أهل الحجيج من أهل اليمن، أفيكم أويس من مراد؟
فقام شيخ طويل اللحية من قرن، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك قد أكثرت السؤال عن أويس هذا، وما فينا أحد اسمه أويس إلا ابن أخ لي يقال له: أويس، فأنا عمه، وهو حقير بين أظهرنا، خامل الذكر، وأقل مالا، وأوهن أمرأ من أن يرفع إليك ذكره.
فسكت عمر- كأنه لا يريده- ثم قال: يا شيخ وأين ابن أخيك هذا الذي تزعم؟
أهو معنا بالحرم؟ قال الشيخ: نعم يا أمير المؤمنين، هو معنا في الحرم، غير أنه في أراك عرفة يرعى إبلا لنا.
فركب عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنهما- على حمارين لهما، وخرجا من مكة، وأسرعا إلى أراك عرفة، ثم جعلا يتخللان الشجر ويطلبانه، فإذا هما به في طمرين من صوف أبيض، قد صف قدميه يصلي إلى الشجرة وقد رمى ببصره إلى موضع سجوده، وألقى يديه على صدره والإبل حوله ترعى- قال عمر لعلي- رضي الله عنهما-: يا أبا الحسن إن كان في الدنيا أويس القرني فهذا هو، وهذه صفته. ثم نزلا عن حماريهما وشدا بهما إلى أراكه ثم أقبلا يريدانه.
فلما سمع أويس حسهما أوجز في صلاته، ثم تشهد وسلم وتقدما إليه فقالا له: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال أويس: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقال عمر- رضي الله عنه-: من الرجل؟ قال: راعي إبل وأجير للقوم، فقال عمر: ليس عن الرعاية أسألك ولا عن الإجارة، إنما أسألك عن اسمك، فمن أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا عبد الله وابن أمته، فقالا: قد علمنا أن كل من في السموات والأرض عبيد الله، وإنا لنقسم عليك إلا أخبرتنا باسمك الذي سمتك به أمك، قال: يا هذان ما تريدان إلي؟ أنا أويس بن عبد الله. فقال عمر- رضي الله عنه-: الله أكبر، يجب أن توضح عن شقك الأيسر، قال: وما حاجتكما إلى ذلك ؟ فقال له علي- رضي الله عنه-: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفك لنا، وقد وجدنا الصفة كما خبرنا، غير أنه أعلمنا أن بشقك الأيسر لمعة بيضاء كمقدار الدينار أو الدرهم، ونحن نحب أن ننظر إلى ذلك، فأوضح لهما ذلك عن شقه الأيسر.
فلما نظر علي وعمر- رضي الله عنهما- إلى اللمعة البيضاء ابتدروا أيهما يقبل قبل صاحبه، وقالا: يا أويس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقرئك منه السلام، وأمرنا أن نسألك أن تستغفر لنا، فإن رأيت أن تستغفر لنا- يرحمك الله- فقد خبرنا بأنك سيد التابعين، وأنك تشفع يوم القيامة في عدد ربيعة ومضر. فبكى أويس بكاء شديدا، ثم قال: عسى أن يكون ذلك غيري، فقال علي- رضي الله عنه-: إتا قد تيقنا أنك هو، لا شك في ذلك، فادع الله لنا رحمك الله بدعوة وأنت محسن. فقال أويس: ما أخص باستغفار نفسي، ولا أحد من ولد آدم، ولكنه في البر والبحر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات في ظلم الليل وضياء النهار، ولكن من أنتما يرحمكما الله؟ فإني قد خبرتكما وشهرت لكما أمري، ولم أحب أن يعلم بمكاني أحد من الناس، فقال علي- رضي الله عنه-: أما هذا فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-، وأما أنا فعلي بن أبي طالب، فوثب أويس فرحا مستبشرأ فعانقهما وسلم عليهما ورحب بهما، وقال:
جزاكما الله عن هذه الأمة خيرا. قالا: وأنت جزاك الله عن نفسك خيرا. ثم قال أويس: ومثلي يستغفر لأمثالكما؟ فقالا: نعم، إنا قد احتجنا إلى ذلك منك، فخصنا- رحمك الله- منك بدعوة حتى نؤمن على دعائك، فرفع أويس! رأسه، وقال!:
اللهم إن هذين يذكران أنهما يحباني فيك، وقد رأوني فاغفر لهما وأدخلهما في شفاعة نبيهما محمد صلى الله عليه وسلم.
فقال عمر- رضي الله عنه- مكانك- رحمك الله- حتى أدخل مكة فأتيك بنفقة من عطائي، وفضل كسوة من ثيابي، فإني أراك رث الحال، هذا المكان الميعاد بيني وبينك غدا. فقال: يا أمير المؤمنين، لا ميعاد بيني وبينك، ولا أعرفك بعد اليوم ولا تعرفني. ما أصنع بالنفقة؟ وما أصنع بالكسوة؟ أما ترى عليَّ إزارأ من صوف ورداً من صوف؟ متى أراني أخلِفهما؟ أما ترى نعليَّ مخصوفتين، متى تُراني أبليهما؟ ومعي أربعة دراهم أخذت من رعايتي متى تُراني آكلها؟
يا أمير المؤمنين: إن بين يدي عقبة لا يقطعها إلا كل مخف مهزول، فأخف- يرحمك الله- يا أبا حفص، إن الدنيا غرارة غدارة، زائلة فانية، فمن أمسى وهمته فيها اليوم مد عنقه إلى غد، ومن مد عنقه إلى غد أعلق قلبه بالجمعة، ومن أعلق قلبه بالجمعة لم ييأس من الشهر، ويوشك أن يطلب السنة، وأجله أقرب إليه من أمله، ومن رفض هذه الدنيا أدرك ما يريد غدأ من مجاورة الجبار، وجرت من تحت منازله الثمار.
فلما سمع عمر- رضي الله عنه- كلامه ضرب بدرته الأرض، ثم نادى بأعلى صوته: ألا ليت عمر لم تلده أمه، ليتها عاقر لم تعالج حملها. ألا من يأخذها بما فيها ولها؟
فقال أويس: يا أمير المؤمنين! خذ أنت ها هنا حتى آخذ أنا ها هنا. ومضى أويس يسوق الإبل بين يديه، وعمر وعلي- رضي الله عنهما- ينظران إليه حتى غاب فلم يروه، وولى عمر وعلي- رضي الله عنهما- نحو مكة
وحديث فضل أويس القرني، وأنه لو أقسم على الله لأبره، وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر-رضي الله عنه- : ( إن استطعت أن يستغفر لك فافعل ) ثابت في صحيح مسلم وغيره
أويس القرنى وهرم بن حيان :
و إليك حديث هرم بن حيان قال : « قدمت الكوفة فلم يكن لي بها هم إلا أويس القرني أطلبه وأسأل عنه ، حتى سقطت عليه جالسا وحده على شاطئ الفرات نصف النهار ، يتوضأ ويغسل ثوبه ، فعرفته بالنعت ، فإذا رجل لحم ، أدم ، شديد الأدمة ، أشعر ، محلوق الرأس - يعني ليس له جمة - كث اللحية ، عليه إزار من صوف ، ورداء من صوف ، بغير حذاء ، كبير الوجه ، مهيب المنظر جدا ، فسلمت عليه ، فرد علي ونظر إلي ، فقال : حياك الله من رجل ؟ فمددت يدي إليه لأصافحه ، فأبى أن يصافحني ، وقال : وأنت فحياك الله ، فقلت : رحمك الله يا أويس وغفر لك ، كيف أنت رحمك الله ؟ ثم خنقتني الغيرة من حبي إياه ، ورقتي له لما رأيت من حاله ، ما رأيت حتى بكيت وبكى ، ثم قال : وأنت فرحمك الله يا هرم بن حيان كيف أنت يا أخي ؟ من دلك علي ؟ قلت : الله ، قال : لا إله إلا الله سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا حين سماني والله ما كنت رأيته قط ، ولا رآني ، ثم قلت : من أين عرفتني ، وعرفت اسمي ، واسم أبي ، فوالله ما كنت رأيتك قط قبل هذا اليوم ، قال : نبأني العليم الخبير ، عرفت روحي روحك حيث كلمت نفسي نفسك ، أن الأرواح لها أنفس كأنفس الأحياء ، إن المؤمنين يعرف بعضهم بعضا ، ويتحدثون بروح الله ، وإن لم يلتقوا ، وإن لم يتكلموا ويتعارفوا ، وإن نأت بهم الديار ، وتفرقت بهم المنازل ، قال : قلت ، حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث أحفظه عنك ، قال : إني لم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن لي معه صحبة ، ولقد رأيت رجالا قد رأوه ، وقد بلغني من حديثه كما بلغكم ، ولست أحب أن أفتح هذا الباب على نفسي أن أكون محدثا أو قاضيا ومفتيا ، في النفس شغل يا هرم بن حيان ، قال : فقلت : يا أخي ، اقرأ علي آيات من كتاب الله أسمعهن منك ، فإني أحبك في الله حبا شديدا ، وادع بدعوات ، وأوص بوصية أحفظها عنك ، قال : فأخذ بيدي على شاطئ الفرات وقال :
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ، قال : فشهق شهقة ، ثم بكى مكانه ، ثم قال : قال ربي تعالى ذكره ، وأحق القول قوله ، وأصدق الحديث حديثه ، وأحسن الكلام كلامه :
" وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق " حتى بلغ " إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم "، ثم شهق شهقة ، ثم سكت فنظرت إليه ، وأنا أحسبه قد غشي عليه ، ثم قال : يا هرم بن حيان مات أبوك ، وأوشك أن تموت ، ومات أبو حيان ، فإما إلى الجنة وإما إلى النار ، ومات آدم ، وماتت حواء يا ابن حيان ، ومات نوح وإبراهيم خليل الرحمن ، يا ابن حيان ، ومات موسى نجي الرحمن ، يا ابن حيان ، ومات داود خليفة الرحمن ، يا ابن حيان ، ومات محمد رسول الرحمن ، ومات أبو بكر خليفة المسلمين ، يا ابن حيان ، ومات أخي وصفيي وصديقي عمر بن الخطاب ، ثم قال : واعمراه رحم الله عمر ، وعمر يومئذ حي ، وذلك في آخر خلافته ، قال : فقلت له : رحمك الله ، إن عمر بن الخطاب بعد حي ، قال : بلى ، إن تفهم فقد علمت ما قلت أنا ، وأنت في الموتى ، وكان قد كان ، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعا بدعوات خفاف ، ثم قال : هذه وصيتي إليك يا هرم بن حيان ، كتاب الله ، واللقاء بالصالحين من المسلمين ، والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولقد نعيت على نفسي ، ونعيتك فعليك بذكر الموت ، فلا يفارقن عليك طرفة وأنذر قومك إذا رجعت إليهم ، وانصح أهل ملتك جميعا ، واكدح لنفسك وإياك إياك أن تفارق الجماعة فتفارق دينك ، وأنت لا تعلم فتدخل النار يوم القيامة ، قال : ثم قال : اللهم إن هذا يزعم أنه يحبني فيك ، وزارني من أجلك ، اللهم عرفني وجهه في الجنة ، وأدخله علي زائرا في دارك دار السلام ، واحفظه ما دام في الدنيا حيث ما كان ، وضم عليه ضيعته ورضه من الدنيا باليسير ، وما أعطيته من الدنيا فيسره له ، واجعله لما تعطيه من نعمتك من الشاكرين ، واجزه خير الجزاء ، استودعتك الله يا هرم بن حيان ، والسلام عليك ورحمة الله ، ثم قال لي : لا أراك بعد اليوم رحمك الله ، فإني أكره الشهرة ، والوحدة أحب إلي لأني شديد الغم ، كثير الهم ، ما دمت مع هؤلاء الناس حيا في الدنيا ، ولا تسأل عني ، ولا تطلبني ، واعلم أنك مني على بال ، ولم أرك ، ولم ترني ، فاذكرني وادع لي ، فإني سأذكرك وأدعو لك إن شاء الله تعالى ، انطلق ها هنا حتى أخذ ها هنا ، قال : فحرصت على أن أسير معه ساعة فأبى علي ، ففارقته يبكي وأبكي ، قال : فجعلت أنظر في قفاه حتى دخل في بعض السكك ، فكم طلبته بعد ذلك ، وسألت عنه ، فما وجدت أحدا يخبرني عنه بشيء ، فرحمه الله ، وغفر له " .
وذكر أحمد فى كتاب الزهد : عن محارب بن دثار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن من أمتي من لا يستطيع أن يأتي مسجده أو مصلاه من العري ، يحجزه إيمانه أن يسأل الناس ، منهم أويس القرني وفرات بن حيان العجلي »